الغيبة
والنظر فيها طويل فلنذكر أولاً مذمة الغيبة وما ورد فيها من شواهد الشرع،
وقد نص الله سبحانه على ذمها في كتابه وشبه صاحبها بآكل لحم الميتة، فقال
تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]
وقال عليه الصلاة والسلام: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"
[أخرجه مسلم] والغيبة تتناول العرض وقد جمع الله بينه وبين المال والدم،
وقال أبو برزة: قال عليه الصلاة والسلام: "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا
تناجشوا ولا تدابروا ولا يغتب بعضكم بعضاً وكونوا عباد الله إخواناً"
[متفق عليه].
وقال أنس: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي على أقوام يخمشون
وجوههم بأظافيرهم فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الذين يغتابون الناس
ويقعون في أعراضهم". [أخرجه أبو داود]. وقال البراء: خطبنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتهن فقال: "يا معشر من آمن بلسانه
ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع
عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته".
[أخرجه أبو داود].
وقال ابن عباس: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك. وقال أبو هريرة: يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عين نفسه.
بيان أن الغيبة لا تقتصر على اللسان
اعلم أن الذكر باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه
بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح والفعل فيه كالقول، والإِشارة والإِيماء
والغمز والهمز والكتابة والحركة وكل ما يفهم فهو داخل في الغيبة وهو حرام.
بيان الأسباب الباعثة على الغيبة
اعلم أن البواعث على الغيبة كثيرة ولكن يجمعها أحد عشر سبباً: ثمانية منها تطّرد في حق العامة، وثلاثة تختص بأهل الدين والخاصة.
أما الثمانية:
فالأول أن يشفي الغيظ.
الثاني: موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام.
الثالث:
أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده ويطّول لسانه عليه أو يقبح حاله عند محتشم،
أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبّح هو حاله ويطعن فيه ليسقط أثر
شهادته، أو يبتدئ بذكر ما فيه صادقاً ليكذب عليه بعده فيروّج كذبه بالصدق
الأول ويستشهد ويقول: ما من عادتي الكذب، فإني أخبرتكم بكذا وكذا من
أحواله فكان كما قلت.
الرابع:
أن ينسب إلى شيء فيريد أن يتبرأ منه فيذكر الذي فعله، وكان من حقه أن يبرئ
نفسه ولا يذكر الذي فعل فلا ينسب غيره إليه، أو يذكر غيره بأنه كان
مشاركاً له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله.
الخامس: إرادة التصنع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول فلان جاهل وفهمه ركيك وكلامه ضعيف.
السادس:
الحسد وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه، فيريد زوال
تلك النعمة عنه فلا يجد سبيلاً إليه إلا بالقدح فيه، فيريد أن يسقط ماء
وجهه عند الناس حتى يكفوا عن كرامته والثناء عليه لأنه يثقل عليه أن يسمع
كلام الناس وثناءهم عليه وإكرامهم له، وهذا هو عين الحسد.
السابع: اللعب والهزل والمطايبة وتمضية الوقت بالضحك، فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة ومنشؤه التكبر والعجب.
الثامن: السخرية والاستهزاء استحقاراً له فإن ذلك قد يجري في الحضور ويجري أيضاً في الغيبة ومنشئه التكبر واستصغار المستهزأ به.
وأما الأسباب الثلاثة التي هي في الخاصة فهي أغمضها وأدقها، لأنها شرور
خبأها الشيطان في معرض الخيرات وفيها خير ولكن شاب الشيطان بها الشر.
الأول:
أن تنبعث من الدين داعية التعجب في إنكار المنكر والخطأ في الدين، فيقول
ما أعجب ما رأيت من فلان! فإنه قد يكون به صادقاً ويكون تعجبه من المنكر،
ولكن كان حقه أن يتعجب ولا يذكر اسمه فيسهل الشيطان عليه ذكر اسمه في
إظهار تعجبه، فصار به مغتاباً وآثماً من حيث لا يدري.
الثاني:
الرحمة وهو أن يغتم بسبب ما يبتلى به فيقول: مسكين فلان قد غمني أمره وما
ابتلي به، فيكون صادقاً في دعوى الاغتمام ويلهيه الغمّ عن الحذر من ذكر
اسمه فيذكره فيصير به مغتاباً فيكون غمه ورحمته خيراً، وكذا تعجبه ولكن
ساقه الشيطان إلى شر من حيث لا يدري، والترحم والاغتمام ممكن دون ذكر اسمه
فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه وترحمه.
الثالث:
الغضب لله تعالى فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه فيظهر
غضبه ويذكر اسمه، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه بالأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ولا يظهره على غيره،أو يستر اسمه ولا يذكره بالسوء، فهذه
الثلاثة مما يغمض دركها على العلماء فضلاً عن العوام، فإنهم يظنون أن
التعجب والرحمة والغضب إذا كان لله تعالى، كان عذراً في ذكر الاسم وهو خطأ.
بيان العلاج الذي يمنع اللسان عن الغيبة
اعلم أن مساوئ الأخلاق كلها إنما تعالج بمعجون العلم والعمل، وإنما علاج
كل علة مضادة سببها، فلنفحص عن سببها. وعلاج كف اللسان عن الغيبة على
وجهين: أحدهما على الجملة، والآخر على التفصيل.
أمّا على الجملة:
فهو أن يعلم تعرضه لسخط الله تعالى بغيبته بهذه الأخبار التي رويناها وأن
يعلم أنها محبطة لحسناته يوم القيامة، فإنها تنقل حسناته يوم القيامة إلى
من اغتابه بدلاً عما استباحه من عرضه، فإن لم تكن له حسنات نقل إليه من
سيئات خصمه، وهو مع ذلك متعرض لمقت الله عز وجل ومشبه عنده بآكل الميتة،
بل العبد يدخل النار بأن تترجح كفة سيئاته على كفة حسناته وربما تنقل إليه
سيئة واحدة ممن اغتابه فيحصل بها الرجحان ويدخل بها النار وإنما أقل
الدرجات أن تنقص من ثواب أعماله وذلك بعد المخاصمة والمطالبة والسؤال
والجواب والحساب.
أما التفصيل فهو أن ينظر في السبب الباعث له على
الغيبة فإن علاج العلة بقطع سببها وقد قدمنا الأسباب: أما الغضب فيعالجه
وهو أن يقول: إني إذا أمضيت غضبي عليه فلعل الله تعالى يمضي غضبه علي بسبب
الغيبة إذ نهاني عنها فاجترأت على نهيه واستخففت بزجره.
وقال صلى
الله عليه وسلم: "من كظم غيظاً وهو يقدر على أن يمضيه دعاه الله تعالى يوم
القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء". [أخرجه أبو داود
والترمذي وحسنه وابن ماجه].
بيان تحريم الغيبة بالقلب
اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول، فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك
بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك، ولست أعنى به إلا
عقد القلب وحكمه على غيره بالسوء، فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه
بل الشك أيضاً معفو عنه، ولكن المنهيّ عنه أن يظن، والظن عبارة عما تركن
إليه النفس ويميل إليه القلب. فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
بيان الأعذار المرخصة في الغيبة
اعلم أن المرخص في ذكر مساوئ الغير هو غرض صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به فيدفع ذلك إثم الغيبة وهي ستة أمور:
الأول:
التظلم فإن من ذكر قاضياً بالظلم والخيانة وأخذ الرشوة كان مغتاباً عاصياً
إن لم يكن مظلوماً أما المظلوم من جهة القاضي فله أن يتظلم إلى السلطان
وينسبه إلى الظلم إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا به قال صلى الله عليه وسلم:
"إن لصاحب الحق مقالاً" [متفق عليه] وقال عليه الصلاة والسلام: "مطل
الغنّي ظلم" [متفق عليه] وقال عليه الصلاة والسلام: "ليّ الواجد يحل
عقوبته وعرضه" [الليّ: المطل].
الثاني:
الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى منهج الصلاح، كما روي أن عمر
رضي الله عنه مر على عثمان وقيل على طلحة - رضي الله عنه فسلم عليه فلم
يرد السلام، فذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه فذكر له ذلك، فجاء أبو بكر
إليه ليصلح ذلك ولم يكن ذلك غيبة عندهم، وكذلك لما بلغ عمر رضي الله عنه
أن أبا جندل قد عاقر الخمر بالشام كتب إليه (بسم الله الرحمن الرحيم حم
تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب).
الآية فتاب، ولم ير ذلك عمر ممن أبلغه غيبة، إذ كان قصده أن ينكر عليه ذلك
فينفعه نصحه ما لا ينفعه نصح غيره، وإنما إباحة هذا بالقصد الصحيح فإن لم
يكن ذلك هو المقصود كان حراماً.
الثالث:
الاستفتاء كأن يقول للمفتي، ظلمني أبي أو زوجتي أو أخي فكيف طريقي في
الخلاص؟ والأسلم التعريض بأن يقول: ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه أو
زوجته؟ ولكن التعيين مباح بهذا القدر لما روي عن هند بنت عتبة أنها قالت
للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني
أنا وولدي أفآخذ من غير علمه فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" [متفق
عليه] فذكرت الشح والظلم لها ولولدها ولم يزجرها صلى الله عليه وسلم إذ
كان قصدها الاستفتاء.
الرابع:
تحذير المسلم من الشر، فإذا رأيت فقيها يتردد إلى مبتدع أو فاسق وخفت أن
تتعدى إليه بدعته وفسقه فلك أن تكشف له بدعته وفسقه، مهما كان الباعث لك
الخوف عليه من سراية البدعة والفسق لا غيره.
الخامس:
أن يكون الإِنسان معروفاً بلقب يعرب عن عيبه كالأعرج والأعمش، فلا إثم على
من يقول روى أبو الزناد عن الأعرج، وسلمان عن الأعمش، وما يجري مجراه فقد
فعل العلماء ذلك لضرورة التعريف.
السادس:
أن يكون مجاهراً بالفسق كالمخنث وصاحب الماخور والمجاهر بشرب الخمر
ومصادرة الناس، وكان ممن يتظاهر به بحيث لا يستنكف، من أن يذكر له ولا
يكره أن يذكر به، فإذا ذكرت فيه ما يتظاهر به فلا إثم عليك، وقال عمر رضي
الله عنه: ليس لفاجر حرمة وأراد به المجاهر بفسقه دون المستتر إذ المستتر
لا بد من مراعاة حرمته، وقال الصلت بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاسق
المعلن بفجوره ذكري له بما فيه غيبة له؟ قال: لا ولا كرامة. وقال الحسن،
ثلاثة لا غيبة لهم، صاحب الهوى والفاسق المعلن بفسقه والإِمام الجائر
فهؤلاء الثلاثة يجمعهم أنهم يتظاهرون به وربما يتفاخرون به، فكيف يكرهون
ذلك وهم يقصدون إظهاره؟ نعم لو ذكره بغير ما يتظاهر به أثم.
بيان كفارة الغيبة
اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب ويتأسف على ما فعله ليخرج به من
حق الله سبحانه، ثم يستحل المغتاب ليحله فيخرج من مظلمته! وينبغي أن
يستحله وهو حزين متأسف نادم على فعله؟ إذ المرائي قد يستحل ليظهر من نفسه
الورع وفي الباطن لا يكون نادماً، فيكون قد قارف معصية أخرى.